cinéma et théâtre
مسرحية فندق العالمين … مسرحية وجودية تُحاكي الضمير وتستفز المصير

في عالم مسرحي تتقاطع فيه الفكرة الفلسفية مع الرؤية الجمالية، تبرز مسرحية فندق العالمين كمحطة إبداعية فارقة في المشهد المسرحي الجزائري المعاصر. هذا العمل الذي أخرجه أحمد لعقون، عن نص للكاتب الفرنسي الشهير إيريك إيمانويل شميت، يقدم للجمهور تجربة تأملية استثنائية تثير أسئلة وجودية عميقة عن الموت، الحياة، الضمير، والخلاص. لقد تحوّل هذا النص على يد لعقون إلى عرض مسرحي استثنائي يعانق جوهر الإنسان، ويحرّك فيه الرغبة في التأمل والمراجعة قبل الرحيل.

خلفية النص وأصل الحكاية
المسرحية مقتبسة عن نص «Hôtel des deux mondes» للكاتب الفرنسي إيريك إيمانويل شميت، والذي كتبه عام 2003 بعد تجربة شخصية حقيقية مر بها في الصحراء الجزائرية عام 1989، حين ضلّ طريقه ووجد نفسه في مواجهة مباشرة مع الذات والوجود. هذا الحدث الحاسم ألهمه نصًا فلسفيًا يستفز الإنسان المعاصر بمفاهيم كبرى كالموت، والفرصة الثانية، والقرار المصيري.
الفضاء المسرحي: فندق… أم مستشفى… أم برزخ؟
تدور أحداث المسرحية في مكان غريب يُسمى «فندق العالمين»؛ ليس فندقًا على الأرض، ولا مستشفى بالمفهوم الطبي، بل فضاء رمزي يقع بين الحياة والموت. إنه مكان يستقبل أشخاصًا في حالة غيبوبة، حيث لا أحد يعلم كيف دخل إليه أو متى سيخرج، ومن أي باب سيكون الخروج: نحو الحياة أم الموت؟
الديكور البسيط والمكثف الذي اعتمد عليه المخرج، وعلى رأسه مصعد أبيض مضاء في منتصف الخشبة، يعكس مصير الشخصيات: من يُدعى للصعود يموت، ومن يُسمح له بالنزول يعود إلى الحياة

الشخصيات: خمس مرايا تعكس الإنسان
يضم العمل خمس شخصيات، كل منها تمثل شريحة اجتماعية أو نفسية معينة، ومن خلال الحوار والتفاعل فيما بينها تُطرح الأسئلة الكبرى:
من نحن؟
ما الذي نفعله في هذه الحياة؟
هل هناك فرصة للتوبة قبل الرحيل؟
هل خلاص الفرد مرتبط بخلاص الجماعة؟
وقد أبدع الممثلون في تجسيد حالات القلق، الخوف، التردد، الندم، والاعتراف، مما حول الخشبة إلى مختبر إنساني نابض بالأسئلة والمشاعر
مسرحية فندق العالمين : إخراج يتجاوز الخشبة
أبدع المخرج أحمد لعقون في نقل النص من مستوى التجريد الفلسفي إلى عرض ملموس ينبض بالمشاعر. لم يكتف بترجمة الكلمات إلى حركة، بل أضفى عليها طاقة داخلية تمس القلب والعقل معًا. اعتمد في رؤيته الإخراجية على بساطة المشهد مقابل تعقيد الفكرة، حيث تصدّرت الخشبة مصعد مضيء يعكس مصير كل شخصية: صعود نحو الموت أو نزول نحو الحياة
واستفاد لعقون من الخلفية الروحية للنص، ليخلق مساحة مسرحية خالية من الزيف، مليئة بالمعنى، تُجبر المتفرج على التفكير، وربما البكاء
رمزية لونية ووجودية
لعبت الألوان دورًا هامًا في تعزيز دلالة العرض: الأبيض والرمادي، رمزان للغيبوبة والتردد والخوف. وهي ليست محض اختيار جمالي، بل امتداد لفكرة المسرحية التي تسائل الإنسان وهو في وضع « بين بين »، لا في الدنيا تمامًا ولا في الآخرة، بل في مساحة تأمل ومراجعة




مسرحية فندق العالمين : أبعاد رمزية وفكرية
تفتح المسرحية أبوابًا متعددة للتأويل
رمزية المصعد: الانتقال بين العالمين (الحياة والموت)، لكنه أيضًا انتقال بين الندم والغفران
اللون الأبيض والرمادي: حالتا التردد والضبابية، بين النور والظل، بين القرار والتأجيل
الفندق كمكان: هو ليس فندقًا بالمعنى المادي، بل برزخ نفسي ووجودي، يسمح للروح أن تتكلم، بعيدًا عن ضجيج الحياة اليومية
مسرحية فندق العالمين : عرض يلامس السياسة والأخلاق
رغم أن النص لا يصرّح بمواقف سياسية مباشرة، إلا أن الأبعاد الرمزية فيه توحي بالكثير. أحد النقاد وصف المسرحية بأنها « نص من نوع المسرح الذهني« ، يشبه أعمال توفيق الحكيم، يدعو للتفكير لا للفرجة. في العمق، المسرحية تقول: «لا تنتظر الموت لتفكر، راجع نفسك الآن!».
إنها دعوة للصدق، للعدل، ولتحمل المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية قبل فوات الأوان. كل شخصية في المسرحية كانت تُجبر على البوح، على التوبة، على محاولة تصحيح المسار. وهي دعوة تصلح للأفراد… كما تصلح للحكّام
الأداء التمثيلي: عندما تتجسد الفلسفة في الجسد
من بين عوامل نجاح العرض المسرحي، يبرز الأداء التمثيلي القوي، حيث جسّد كل ممثل شخصيته باحترافية عالية وإحساس داخلي صادق. وكان لافتًا الأداء المميز للممثل علي ناموس، الذي لعب أحد الأدوار الرئيسية بشخصية مليئة بالتوتر الداخلي، بين التوبة والتمرد، بين الخوف من الرحيل والرغبة في الاعتراف
علي ناموس، المعروف بحضوره المسرحي القوي، أضفى على الدور طابعًا وجوديًا خاصًا، وجعل من لحظاته على الخشبة مرآة عاكسة لمشاعر الجمهور. جسّد شخصية رجل عاش تجارب متناقضة، ووجد في الفندق لحظة مواجهة ذاتية، فانكشفت هشاشته الإنسانية على الملأ. إلى جانبه، تألق عدد من الممثلين الآخرين الذين قدّموا شخصياتهم باحترافية، منها الشخص المتغطرس، والمحب التائه، والمرأة التي تبحث عن معنى الحياة. كل منهم كان مرآة لجانب من الإنسان المعاصر.
علي ناموس في دور “جوليان”… تجسيد معقّد لإنسان يبحث عن خلاصه
من بين أبرز العناصر التي منحت مسرحية «فندق العالمين» بعدها العاطفي والدرامي العميق، كان أداء الممثل علي ناموس في دور جوليان، الشخصية المحورية التي شكلت نقطة التقاء بين البعد الفلسفي والبعد الإنساني للنص
جوليان ليس مجرد شخصية في غيبوبة داخل فندق غامض، بل هو تجسيد لرجل يترنح بين الندم على الماضي والخوف من المصير، بين الطموح والتسلّق الذي قد يكون أوقعه في أخطاء قاتلة، وبين الفرصة الأخيرة للاعتراف والتطهير. هذه التركيبة المعقدة تطلّبت ممثلًا يملك قدرات داخلية عالية، وقد أظهر علي ناموس أنه على قدر هذا التحدي

أداء داخلي لا يستجدي التعاطف بل يفرضه
لم يلجأ علي ناموس إلى المبالغة أو الانفعال الزائد. بل اعتمد على الصمت المعبر، ونظرات مشحونة، وارتجافات صوتية دقيقة لترجمة الصراع الداخلي لجوليان. كانت وقفته على الخشبة كأنها وقفة إنسان أمام محكمة روحية، لا يسمع فيها سوى صدى ضميره
في لحظة مركزية من المسرحية، حين تُمنح جوليان « الفرصة الثانية »، نرى شخصية مليئة بالتردد، التوتر، والخوف من الحساب. هذه اللحظة، التي قد تمرّ في ثوانٍ، شكّلت ذروة درامية هزّت مشاعر الجمهور، وحرّكت تساؤلات وجودية لدى كل من تابع العرض
كما عبّر أحد النقاد بعد العرض:
« لم يكن جوليان شخصية على الخشبة، بل كان أنا وأنت وهو… كان ضميرًا حيًا يُستدعى للمحاكمة. »

ما يميز علي ناموس في هذا الدور؟
إتقانه للهروب التدريجي من القناع: فقد بدأ بشخصية تبدو واثقة، ثم راح يتآكل أمام نفسه.
تنويعه النغمي بين التكبر والاعتراف، بين التهكم والخوف
سيطرته على الفضاء المسرحي دون أن يطغى على باقي الشخصيات
هذا الأداء لم يكن مجرد إنجاز فني، بل شكل عنصر توازن أساسي في العمل المسرحي، حيث قاد جوليان الجمهور في رحلة داخل الذات الإنسانية، وكان بمثابة مرآة لكل شخص تساءل يومًا: « ماذا لو واجهت نفسي دون أعذار؟«
جوائز ومشاركات مسرحية فندق العالمين
شاركت المسرحية في عدة مهرجانات بارزة، منها:
مهرجان المسرح العربي – الطبعة التاسعة (دورة عز الدين مجوبي)، حيث قُدمت في وهران ومستغانم
مهرجان المسرح الوطني المحترف – الدورة العاشرة بالمسرح الوطني محي الدين باشطارزي، منافسة على جائزة « أحسن عمل متكامل »
وقد لاقت المسرحية استحسان النقاد والجمهور، ووصفت بأنها واحدة من أعمق المسرحيات الجزائرية التي تعالج مسألة الوجود والمصير بطرح مسرحي وفني راقٍ
شهادة النقاد: الفن كوسيلة خلاص
وصف الناقد الفلسطيني تحسين يقين المسرحية بأنها واحدة من أندر العروض التي تُعيد ربط الإنسان بذاته، وتُعيد إليه حسّ المساءلة الأخلاقية. وكتب:
« كأن المسرحية تقول: هناك دومًا فرصة للفعل الأخلاقي… وقبل الرحيل، ثمة لحظة كافية للعدالة والاعتدال، تجعل من الرحيل نفسه نوعًا من البقاء الجميل. »
فرصة قبل الرحيل
فندق العالمين ليس مجرد مسرحية. إنه نداء أخلاقي، صرخة فلسفية، وتأمل وجودي، يذكّرنا بأن الوقت يمر، وأن التغيير يجب أن يبدأ من الداخل… من الضمير. في عالم يكثر فيه الضجيج، تأتي هذه المسرحية لتدعونا إلى لحظة صمت وتأمل… ربما تكون الأخيرة
المسرحية تُجبرك أن تسأل نفسك:
هل أنا مستعد للرحيل؟
وهل اغتنمت فرص الحياة كما ينبغي؟
إنها مرآة نقية تُعرض على الخشبة، ليعكس كل واحد منا وجهه الحقيقي فيها
الفن هنا ليس وسيلة ترفيه، بل أداة تحريض على التفكير، ومناسبة نادرة لمواجهة الذات